فصل: ذكر ظهور قبيحة أم المعتز:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الشغب ببغداد:

وفي هذه السنة شغبت العامة ببغداد سلخ رجب، ووثبوا بسليمان بن عبد الله.
وكان سببه أن كتاب المهتدي ورد سلخ رجب إلى سليمان يأمره بأخذ البيعة له؛ وكان أبوأحمد بن المتوكل ببغداد، وكان المعتز قد سيره إليهأن كما تقدم، فأرسل سليمان إليه، فأخذه إلى داره.
وسمع من ببغداد من الجند والعامة بأمر المعتز، فاجتمعوا إلى باب دار سليمان، فقاتلهم أصحابه، وقيل لهم: ما يرد علينا من سامرا خبر، فانصرفوا.
ورجعوا الغد، وهويوم الجمعة، على ذلك، وخطب للمعتز ببغداد، فانصرفوأن وبكروا يوم السبت، فهجموا على دار سليمان، ونادوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وسألوا سليمان أن يريهم أبا أحمد، فأظهره لهم، ووعدهم أن يصير إلى محتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا بعد أن أكدوا عليه في حفظ أبي أحمد.
ثم أرسل إليهم من سامرا مال ففرق فيهم، فرضوأن وبايعوا للمهتدي لسبع خلون من شعبان وسكنت الفتنة.

.ذكر ظهور قبيحة أم المعتز:

قد ذكرنا استتارها عند قتل ابنها؛ وكان السبب في هربها وظهورها أنها كانت قد واطأت النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح على الفتك بصالح، فلما أوقع بهم، وعذبهم، علمت أنهم لا يكتمون عنه شيئأن فأيقنت بالهلاك، فعملت في الخلاص، وأخرجت ما في الخزائن إلى خارج الجوسق من الأموال، والجواهر، وغيرهأن فأودعته، واحتالت، فحفرت سرباً في حجرة لها إلى موضع يفوت التفتيش، فلما خرجت الحادثة على المعتز بادرت فخرجت في ذلك السرب، فلما فرغوا من المعتز طلبوها فلم يجدوهأن ورأوا السرب فخرجوا منه، فلم يقفوا على خبرهأن وبحثوا عنها فلم يظفروا بها.
ثم إنها فكرت فرأت أن ابنها قتل، وأن الذي تختفي عنده يطمع في مالها وفي نفسهأن ويتقرب بها إلى صالح، فأرسلت امرأة عطارة إلى صالح ابن وصيف، فتوسطت الحال بينهمأن وظهرت في رمضان، وكانت لها أموال ببغداد، فأحضرتهأن وهي مقدار خمسمائة ألف دينار، وظفروا لها بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، ومن جملتها دار تحت الأرض، وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوأن في سفط، قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله؛ وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار؛ وفي سفط مقدار كيلجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله، فحمل الجميع إلى صالح، فسبهأن وقال: عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلها!.
ثم سارت قبيحة إلى مكه، فسعت وهي تدعوبصوت عال على صالح ابن وصيف، وتقول: اللهم أخز صالحاً كما هتك ستري، وقتل ولدي، وشتت شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني وأقامت بمكة.
وكان المتوكل سماها قبيحة لحسنها وجمالهأن كما يسمى الأسود كافوراً. قال: وكانت أم المهتدي قد ماتت قبل استخلافه، وكانت تحت المستعين، فلما قتل جعلها المعتز في قصر الرصافة، فماتت، فلما ولي المهتدي قال: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها غلة عشرة آلاف دينار في كل سنة لجواريهأن وخدمهأن والمتصلين بهأن وما أريد إلا القوت لنفسي وولدي، وما أريد فضلاً إلا لإخوتي، فإن الضائقة قد مستهم.

.ذكر قتل أحمد بن إسرائيل وأبي نوح:

وفيها قتل أحمد بن إسرائيل، وكان صالح قد عذبه بعد أن أخذه وأخذ ماله، ومال الحسن بن مخلد، ثم أمر بضربه وضرب أبي نوح ضرب التلف، كل واحد منهما خمس مائة سوط، فماتا ودفنأن وبقي الحسن بن مخلد في الحبس. ولما بلغ المهتدي ضربهما قال: أما عقوبة إلا السوط والقتل، أما يكفي الحبس؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! يكرر ذلك مراراً.
ذكر ولاية سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وشغب الجند والعامة بها وفي رمضان وثب عامة بغداد وجندها بمحمد بن أوس البلخي.
وكان السبب في ذلك أن محمد بن أوس قدم من خراسان مع سليمان بن عبد الله بن طاهر على الجيش القادمين من خراسان، وعلى الصعاليك الذين معهم، ولم تكن أسماؤهم في ديوان العراق؛ وكانت العادة أن يقام لمن يقدم من خراسان بالعراق ما كان لهم بخراسان، ويكون وجه ذلك من دخل ضياع ورثة طاهر بن الحسين، ويكتب إلى خراسان ليعطي الورثة من بيت المال عوضه.
فلما سمع عبيد الله بن عبد الله بقدوم سليمان إلى العراق، ومصير الأمر إليه، أخذ ما في بيت مال الورثة، وأخذ نجوماً لم تحل، وسار، فأقام بالجويب، في شرقي دجلة، ثم انتقل إلى غربيها؛ فقدم سليمان فرأى بيت مال الورثة فارغأن فضاقت عليه الدنيأن وأعطى أصحابه من أموال جند بغداد، وتحرك الجند والشاكرية في كلب الأرزاق.
وكان الذين قدموا مع محمد بن أوس من خراسان قد اساؤوا مجاورة أهل بغداد، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم والغلمان بالقهر، فامتلأوا عليهم غيظاً وحنقأن فاتفق العامة مع الجند، وثاروأن وأتوا سجن بغداد، عند باب الشام، فكسروا بابه، وأطلقوا من فيه، وجرت حرب بين القادمين مع ابن أوس وبين أهل بغداد، فعبر ابن أوس وأصحابه وأولاده إلى الجزيرة، وتصايح الناس: من أراد النهب فيلحق بنا! فقيل إنه عبر إلى الجزيرة من العامة أكثر من مائة ألف نفس، وأتاهم الجند في السلاح، فهرب ابن أوس إلى منزله، فتبعه الناس، فتحاربوا نصف نهار حرباً شديدة، وجرح ابن أوس، وانهزم هووأصحابه، وتبعه الناس حتى أخرجوهم من باب الشماسية، وانتهبوا منزله وجميع ما كان فيه، فقيل: كان قيمة ذلك ألفي ألف درهم، وأخذوا له من الأمتعة ما لا حد عليه، ونهب أهل بغداد منازل الصعاليك من أصحابه.
فأرسل سليمان بن عبد الله إلى ابن أوس يأمره بالمسير إلى خراسان، ويعلمه أنه لا طريق له إلى العود إلى بغداد، فرحل إلى النهروان، فنهب وأفسد، ثم أتى بابكيال التركي، كتب إليه ولاة طريق خراسان في ذي القعدة، وكان مساور بن عبد الحميد قد استخلف رجلاً اسمه موسى بالدسكرة ونواحيهأن في ثلاثمائة رجل، وإليه ما بين حلوان والسوس على طريق خراسان وبطن جوخى.
وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين من سامرأن ونفاهم عنهأن وأمر أيضاً بقتل السباع التي كانت بدار السلطان، وطرد الكلاب؛ ورد المظالم، وجلس للعامة، ولما ولي كانت الدينا كلها بالفتن منسوخة.

.ذكر استيلاء مفلح على طبرستان وعوده عنها:

في هذه السنة سار مفلح إلى طبرستان، فحارب الحسن بن زيد العلوي، فانهزم الحسن ولحق بالديلم، ودخل مفلح البلد، وأحرق منازل الحسن، وسار إلى الديلم في طلبه، ثم عاد عن طبرستان بعد أن دخلهأن وهزم الحسن ابن زيد العلوي، وعاد موسى بن بغا من الري.
وسبب ذلك أن قبيحة أم المعتز لما رأت اضطراب الأتراك كتبت إلى موسى تسأله القدوم عليهم، وأملت أن يصل قبل أن يفرط في ولدها فارط، فعزم موسى على الانصراف، وكتب إلى مفلح يأمره بالانصراف عن طبرستان إليه بالري، فورد كتابه إلى مفلح وهوقد توجه إلى أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد العلوي، فلما أتاه الكتاب رجع، فأتاه من كان هرب من الحسن من أهل طبرستان، ورجوا العود إلى بيوتهم، وقالوا له: ما سبب عودك؟ فأخبرهم بكتاب الأمير إليه بعزم عليه، ولم يتهيأ لموسى المسير عن الري حتى أتاه خبر المعتز والبيعة للمعتدي، فبايعوا المهتدي.
ثم إن الموالي الذين مع موسى بلغهم ما أخذ صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسلاب المعتز، فحسدوا المقيمين بسامرأن فدعوا موسى بن بغا بالانصراف، وقدم عليهم مفلح وهوبالري فسار نحوسامرأن فكتب إليه المهتدي يأمره بالعود إلى الري ولزوم ذلك الثغر، فلم يفعل، فأرسل إليه رجلين من بني هاشم يعرفانه ضيق الأموال عنده، ويحذرانه غلبة العلويين على ما يجعله خلفه، لم يسمع ذلك.
وكان صالح بن وصيف يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويتبرأ إلى المهتدي من فعله، ولما أتى الرسل موسى ضج الموالي، وكادوا أن يثبتوا بالرسل، ورد موسى الجواب يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، ويحتج بما عاين الرسل، وأنه إن تخلف عنهم قتلوه، وسير مع الرسل جماعة من أصحابه، فقدموا سامرا سنة ست وخمسين ومائتين.

.ذكر استيلاء مساور على الموصل:

لما انهزم عسكر الموصل من مساور الخارجي، كما ذكرناه، قوي أمره، وكثر أتباعه، فسار من موضعه وقصد الموصل، فنزل بظاهرها عند الدير الأعلى، فاستتر أمير البلد منه، وهوعبد الله بن سليمان، لضعفه عن مقاتلته، ولم يدفعه أهل الموصل لميلهم إلى الخلاف، فوجه مساور جمعاً إلى دار عبد الله أمير البلد، فأحرقهأن ودخل مساور الموصل بغير حرب، فلم يعرض لأحد.
وحضرت الجمعة، فدخل المسجد الجامع، وحضر الناس، أومن حضر منهم، فصعد المنبر وخطب عليه، فقال في خطبته: اللهم أصلحنأن وأصلح ولاتنا! ولما دخل في الصلاة جعل إبهاميه في أذنيه، ثم كبر ست تكبيرات، ثم قرأ بعد ذلك، ولما خطب جعل على درج المنبر من أصحابه من يحرسه بالسيوف، وكذلك في الصلاة، لأنه خاف من أهل الموصل؛ ثم فارق الموصل، ولم يقدم على المقام بها لكثرة أهلهأن وسار إلى الحديثة لأنه كان اتخذها دار هجرته.

.ذكر أول خروج صاحب الزنج:

وفي شوال خرج في فرات البصرة رجل، وزعم أنه علي بن محمد بن أمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وجمع الزنج الذين كانوا سيكنون السباخ، وعبر دجلة، فنزل الديناري.
قال أبوجعفر: وكان اسمه، فيما ذكر، علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمه ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم من بني أسد بن خزيمة من قرى الري، وكن يقول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين، فلما قتل زيد هرب فلحق بالري، فجاء إلى قرية ورزنين وأقام بها. وإن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وقدم العراق، واشترى جارية سندية، وأولدها محمداً أباه، وكان متصلاً قبل بجماعة من حشاية المنتصر، منهم غامن الشطرنجي، وسعيد الصغير، وكان معاشه منهم ومن أصحاب السلطان، وكان يمدحهم ويستميحهم بشعره، منهم، ومن غيرهم.
ثم إنه شخص من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن عبد الله بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها ومن غيرهم، فجرى بين الطائفتين عصبية قتل فيها جماعة.
وكان أهل البحرين قد أحلوه بمحل نبي، وجبى الخراج، ونفذ فيهم حكمه، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه، فوتر منهم جماعة، فتنكروا به، فانتقل عنهم إلى الإحساء، ونزل على قوم من بني سعد بن تميم يقال لهم: بنوالشماس، وأقام فيهم، وفي صحبته جماعة من البحرين منهم: يحيى ابن محمد الأزرق البحراني، وسليمان بن جامع، وهوقائد جيشه.
وكان ينتقل بالبادية، فذكر عنه أنه قال: أوتيت في تلك الأيام بالبادية آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها أني لقنت سوراً من القرآن، فجرى بها لساني في ساعة، وحفظتها في دفعة واحدة، منها: سبحان، والكهف، وصاد، ومنها أني فكرت في الموضع الذي أقصده حيث أتيت في البلاد، فأظلتني غمامة، وخوطبت منهأن فقيل لي: اقصد البصرة.
وقيل عنه إنه قال لأهل البادية: إنه يحيا به عمر العلوي، أبوالحسن، المقتول بناحية الكوفة، فخدع أهلهأن فأتاه منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى الردم، من البحرين، كانت بينهم وقعة عظيمة، وكانت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، قتلوا قتلاً كثيرأن فتفرقت العرب عنه.
فلما تفرقت عنه سار فنزل البصرة في بني ضبيعة، فاتبعه منهم جماعة كبيرة منهم: علي بن أبان المهلبي، وكان قدومه البصرة سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عاملهأن ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية، والسعدية. وطمع في إحدى الطائفتين أن تميل إليه، فأرسل إليهم يدعوهم، فلم يجبه أحد من أهل البلد، وطلبه ابن رجاء، فهرب، فحبس جماعة ممن كانوا يميلون إليه، منهم: ابنه، وزوجته، وابنة له، وجارية حامل منه. وسار يريد بغداد، ومعه من أصحابه محمد بن سلم، ويحيى بن محمد، وسليمان بن جامع، ومرقس القريعي؛ فلما صار بالبطيحة نذر بهم رجل كان يلي أمرهأن اسمه عمير بن عمار، فحملهم إلى محمد بن أبي عون، عامل واسط، فخلص منه هووأصحابه، فدخل بغداد، فأقام بها حولأن فانتسب إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زسد، فزعم بها أنه ظهر له آيات عرف بها ما في ضمائر أصحابه، وما يفعل كل واحد منهم، فاستمال جماعة من أهل بغداد منهم: جعفر بن محمد الصوحاني من ولد يزيد بن صوحان، ومحمد بن القاسم، ومشرق، ورقيق، غلاماً يحيى بن عبد الرحمن، فسمى مشرقاً حمزة، وكناه أبا أحمد، وسمى رقيقاً جعفرأن وكناه أبا الفضل.
وعزل محمد بن رجاء عن البصرة، فوثب رؤساء والسعدية، فأخرجوا من في الحبوس، فخلص أهله فيهم؛ فلما بلغه خلاص أهله رجع إلى البصرة، وكان رجوعه في رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان، ويحيى بن محمد، وسليمان، ومشرق، ورقيق، فوافوا البصرة، فنزل بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود ابن المنجم، واظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، فأقام هنالك.
وذكر ريحان أحد غلمان السورجيين، وهوأول من صحبه منهم، أنه قال: كنت موكلاً بغلمان مولاي أنقل لهم الدقيق، فأخذني أصحابه، فساروا بي إليه، وأرموني أن أسلم عليه بالإمرة، ففعلت، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته، وسألني عن أخبار البصرة، فقلت: لا علم لي؛ وسألني عن غلمان السورجيين، وعن أحوالهم، وما يجري لهم، فأعلمته فدعاني إلى ما هوعليه، فأجبته، فقال: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، وأقبل بهم إلي، ووعدني أن يقودني على من آتيه به، واستحلفني أن لا أعلم أحداً بموضعه، وأن أرجع إليه، وخلى سبيلي.
وعدت إليه من الغداة، وقد أتاه جماعة من غلمان الدباشين، فكتب في حريرة: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} التوبة: 111؛ وجعلها في رأس مردي، وما زال يدعوغلمان أهل البصرة، ويقبلون إليه للخلاص من الرق والتعب، فاجتمع عنده منهم خلق كثير، فخطبهم، ووعدهم أن يقودهم ويملكهم الأموال، وحلف لهم بالإيمان أن لا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئاً من الإحسان إلا أتى به إليهم؛ فأتاه مواليهم، وبذلوا له على كل عبد خمسة دنانير ليسلم إليه عبده، بطح أصحابهم، وأمر كل من عنده من العبيد؛ فضربوا مواليهم، أووكيلهم، كل سيد خمسمائة سوط، ثم أطلقهم فمضوا نحوالبصرة.
ثم ركب في سفن هناك، فعبر دجيلاً إلى نهر ميمون، فأقام هناك، ولم يزل هذا دأبه يتجمع إليه السودان إلى يوم الفطر، فخطبهم، وصلى بهم، وذكرهم ما كانوا فيه من الشقاء وسوء الحال، وأن الله تعالى أبعدهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم العبيد والأموال.
فلما كان بعد يومين رأى أصحابه الحميري، فقاتلوه حتى أخرجوه من دجلة، واستأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء الزنج يكنى بأبي صالح، ويعرف بالقصير، في ثلاثمائة من الزنج، فلما كثروا جعل القواد فيهم منهم، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهومضموم إليه.
وكان ابن أبي عون قد نقل من واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، وسار قائد الزنج إلى المحمدية، فلما نزلها وافاه أصحاب ابن أبي عون، فصاح الزنج: السلاح، وقاموأن وكان فيهم فتح الحجام، فقام واخذ طبقاً كان بين يديه، فلقيه رجل من لاسورجيين يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه، وحذفه بالطبق الذي بيده، فرمى سلاحه وولى هاربأن وانهزم صحابه، وكانوا أربعة آلاف، وقتل منهم جماعة، ومات بعضهم عطشأن وأسر منهم، وأمر بضرب أعناقهم.
ثم سار إلى القادسية، فنهبها أصحابه بأمره، وما زال يتردد إلى أنهار البصرة، فوجد بعض السودان داراً لبعض بني هاشم، وفيها سلاح بالسيب، فانتهبوه، فصار معهم ما يقاتلون به، فأتاه، وهوبالسيب، جماعة من أهل البصرة يقاتلونه، فوجه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل، فلقوا البصريين، فانهزم البصريون منهم، وأخذوا سلاحهم، ثم قاتل طائفة أخرى عند قرية تعرف بقرية اليهود، فهزمهم أيضأن وأثبت أصحابه في الصحراء.
ثم أسرى إلى الجعفرية، فوضع في أهلها السيف، فقتل أكثرهم، وأتى منهم بأسرى فأطلقهم، ولقي جيشاً كبيراً للبصريين مع رئيس اسمه عقيل، فهزمهم، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وكان معهم سفن، فهبت عليها ريح فألقتها إلى الشط، فنزل الزنج وقتلوا من وجدوا فيهأن وغمنوا ما فيهأن وكان مع الرئيس سفن، فركبها ونجأن فأنفذ صاحب الزنج فأخذها ونهب ما فيهأن ثم نهب القرية المعروفة بالمهلبية وأحرقهأن وأفسد في الأرض وعاث.
ثم ليه قائد من قواد الأتراك يقال له: أبوهلال في أربعة آلاف مقاتل على نهر الريان، فاقتتلوأن وحمل السودان عليه حملة صادقة، فقتلوا صاحب علمه، فانهزم هووأصحابه، وتبعهم السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال أكثر من ألف وخمس مائة رجل، وأخذوا منهم أسرى فأمر بقتلهم.
ثم إنه أتاه من أخبره أن الزينبي قد أعد له الخيول، والمتطوعة، والبلالية، والسعدية، وهم خلق كثير، وقد أعدوا الحبال من يأخذونه من السودان، والمقدم عليهم أبومنصور، وهوأحد موالي الهاشميين، فأرسل علي ابن أبان في مائة أسود ليأتيه بخبرهم، فلقي طائفة منهم، فهزمهم، وصار من معهم من العبيد إلى علي بن أبان.
وأرسل طائفة أخرى من أصحابه، فأتوا إلى موضع فيه ألف وتسع مائة سفينة، ومعها من يحفظهأن فلما أرادوا الزنج هربوا عنهأن فأخذ الزنج السفن وأتوا بها إلى صاحبهم، فلما أتوه قعد على نشز من الأرض.
وكان في السفن قوم حجاج أرادوا أن يسلكوا طريق البصرة، فناظرهم، فصدقوه على قوله، وقالوا له: لوكان معنا فضل نفقة لأقمنا معك؛ فأطلقهم، وأرسل طليعة تأتيه بخبر ذلك العسكر، فأتاه خبرهم أنهم قد أتوه في خلق كثير، فأمر محمد بن سالم، وعلي بن أبان أن يقعدا لهم بالنخل، وقعد هوعلى جبل مشرف، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال، فأمر الزنج فكبروأن وحملوا عليهم، وحملت الخيول، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هوعليه، ثم حملوأن فثبتوا لهم، وقتل من الزنج فتح الحجام، وصدق الزنج الحملة، فأخذوهم بين أيديهم، وخرج محمد بن سالم وعلي بن أبان، وحملوا عليهم فقتلوا منهم، وانهزم الناس، وذهبوا كل وذهب، وتبعهم السودان إلى نهر بيان، فوقعوا في الوحل، فقتلهم السودان، وغرق كثير منهم.
وأتى الخبر إلى الزنوج بأن لهم كميناً فساروا إليه، فإذا الكمين في أكثر من ألف من المغاربة، فقاتلهم قتالاَ شديدأن ثم حمل السودان عليهم، فقتلوهم أجمعين واخذوا سلاحهم.
ثم وجه أصحابه فرأوا مائتي سفينة فيها دقيق فأخذوه، ومتاعاً فنهبوه، ونهب المعلي بن أيوب ثم سار، فرأى مسلحة الزينبي فقاتلوه، فقاتلهم، فقتلهم أجمعين، فكانوا مائتين؛ ثم سار فنهب قرية ميزران، ورأى فيها جمعاً من الزنج ففرقهم على قواده؛ ثم سار، فلقيه ستمائة فارس مع سليمان ابن أخي الزينبي، ولم يقاتله، فأرسل من ينهب، فأتوه بغمن وبقر، فذبحوا وأكلوأن وفرق أصحابه في انتهاب ما هناك.
ثم إن صاحب الزنج سار يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى نادى السودان: السلاح السلاح، وأمر علي بن أبان بالعبور إليهم، فعبر في ثلاثمائة رجل، وقال له: إن احتجت إلى مدد فاستمدني، فلما مضى علي صاح الزنج: السلاح السلاح، لحركة رأوها في جهة أخرى، فوجه محمد بن سالم، فرأى جمعأن فقاتلهم من وقت الظهر إلى آخر وقت العصر، ثم حمل الزنوج حملة صادقة، فهزموهم، وقتلوا من أهل البصرة والأعراب زهاء خمس مائة، ورجعوا إلى صاحبهم.
ثم أقبل علي بن أبان في أصحابه، وقد هزموا من بإزائهم، وقتلوا منهم، ومعه رأس ابن أبي الليث البلالي القواريري من أعيان البلالية، ثم سار من الغد عن ذلك المكان، ونهى أصحابه عن دخول البصرة، فتسرع بعضهم، فلقيهم أهل البصرة في جمع عظيم، وانتهى الخبر إليه فوجه محمد بن سالم، وعلي بن أبان، ومشرقأن وخلقاً كثيرأن وجاء هويسايرهم فلقوا البصريين، فأرسل إلى أصحابه ليتأخر عن المكان الذي هم فيه، فتراجعوأن فأكب عليهم أهل البصرة فانهزموأن وذلك عند العصر، ووقع الزنوج في نهر كبير، ونهر شيطان، وقتل منهم جماعة، وغرق جماعة، وتفرق الباقون، وتخلف صاحبهم عنهم، وبقي في نفر يسير، فنجاه الله تعالى.
ثم لقيهم وهم متحيرون لفقده، وسأل عن أصحابه، فإذا ليس معه إلا خمس مائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي يجتمعون لصوته، فلم يأته أحد، وكان أهل البصرة قد انتهبوا السفن التي كانت للزنوج، وبها متاعهم، فلما أصبح رأى أصحابه في ألف رجل، وأرسل محمد بن سالم إلى أهل البصرة يعظهم، ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فقتلوه.
فلما كان يوم الاثنين لأربع خلون من ذي القعدة جمع أهل البصرة وحشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه، وانتدب لذلك رجل يعرف بحماز لاساجي، وكان من غزاة البحر، وله علم في ركوب السفن، فجمع المتطوعة، ورماة الأهداف، وأهل المسجد الجامع، ومن خف معه من البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غيرهم، وشحن ثلاثة مراكب، وشذوات مقابلة، وجعلوا يزدحمون، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه سلاح، ومنهم نظارة، فدخلت المراكب في المد، والرجالة على شاطئ النهر.
فلما علم صاحب الزنج بذلك وجه طائفة من أصحابه مع زريق الأصبهاني، في شرقي النهر، كمينأن وطائفة مع شبل، وحسين الحمامي، في غريبة، كمينأن وأمر علي بن أبان أن يلقى أهل البصرة، وأن يستتر هوومن معه يتراسهم، ولا يقاتل حتى تظهر أصحابه، وتقدم إلى الكمينين، إذ جاوزهم أهل البصرة، أن يخرجوأن ويصيحوا بالناس، وبقي هوفي نفر يسير من أصحابه، وقد هاله ما رأى من كثرة الجمع، فسار أصحابه إليهم، وظهر الكمينان من جانبي النهر ومن وراء السفن، والرجالة، فضربوا من ولى من الرجالة والنظارة، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهرب الباقون إلى الشط، فأدركهم السيف، فمن ثبت ومن ألقى نفسه في الماء غرق، فهلك أكثر ذلك الجمع، فلم ينج إلى الشريد، وكثر المفقودون من أهل البصرة، وعلا العويل من نسائهم، وهذا يوم البيداء الذي أعظمه الناس.
وكان فيمن قتل جماعة من بني هاشم وغيرهم في خلق كثير لا يحصى، وجمعت للخبيث الرؤوس، فأتاه جماعة من أولياء المقتولين، فأعطاهم ما عرفوأن وجمع الرؤوس التي لم تطلب، وجعلها في خزينة، فأطلقها فوافت البصرة، فجاء الناس واخذوا كل ما عرفوه منهأن وقوي بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه.
وكتب الناس إلى الخليفة بخبر ما كان، فوجه إليهم جعلان التركي مددأن وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمسير إلى الأبلة واليأن وأمده بقائد من الأتراك يقال له جريح؛ وأما الخبيث صاحب الزنج فإنه انصرف بأصحابه إلى سبخة من آخر النهار، وهي سبخة أبي قرة، وبث أصحابه يميناً وشمالاً للغارة والنهب، فهذا ما كان منه في هذه السنة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كانت وقعة بين عسكر الخليفة وبين مساور الشاري، فانهزم عسكر الخليفة.
وفيها مات المعلى بن أيوب.
وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد والسواد في ربيع الأول، وكان قدومه من خراسان فيه أيضأن فسار إلى المعتز، فخلع عليه، وسار إلى بغداد، فقال ابن الرومي:
من عذيري من الخلائق ضلوا ** في سليمان عن سواء السبيل

عوضوه، بعد الهزيمة، بغدا ** د كأن قد أتى بفتح جليل

من يخوض الردى إذا كان من ف ** ر أثابوه بالجزاء الجميل

يعني هزيمة سليمان من الحسن بن زيد العلوي.
وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل، والحسن بن مخلد، وأبا نوح عيسى بن إبراهيم، فقيدهم، وطالبهم بالأموال.
وكان سببه أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، فقال صالح للمعتز: هؤلاء يطلبون أرزاقهم، وليس في بيت المال شيء، وقد ذهب هؤلاء الكتاب بالأموال، وكان أحمد وزير المعتز، والحسين وزير أم المعتز، وقال له أحمد بن إسرائيل: يا عاصي ابن العاصي، فتراجعا الكلام، فسقط صالح مغشياً عليه، فرش على وجهه الماء.
وبلغ ذلك أصحابه، وهم بالباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز، فدخل وتركهم، وأخذ صالح أحمد بن إسرائيل، وابن مخلد، وعيسى، فأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح: قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي، فلم يفعل، ثم ضربهم، واخذ خطوطهم بمال جزيل قسط عليهم، ولم يحصل منهم شيء، وقام جعفر بن حمود بالأمر والنهي.
وفيهأن في رجب، ظهر عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان بالكوفة، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى.
وفيهأن في ذي القعدة، حبس الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل قضاء سامرا في ذي الحجة؛ وحج بالناس علي بن الحسين بن العباس بن محمد بن علي بن عبد اله بن العباس.
وفيها ظهر بمصر إنسان علوي ذكر أنه أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا، وكان ظهوره بين الرقة والإسكندرية، وسار إلى الصعيد، وكثر أتباعه، وادعى الخلافة، فسير إليه أحمد بن طولون جيشأن فقاتلوه، وانهزم أصحابه عنه، وثبت هوفقتل، وحمل رأسه إلى مصر.
وفيها توجه خفاجة بن سفيان أمير صقلية في رجب، وولي بعده ابنه ممد، وتقدم ذكر ذلك سنة سبع وأربعين ومائتين؛ ولما ولي محمد سير عمه عبد الله بن سفيان إلى سرقوسة فأهلك زرعها وعاد.
وفيها توفي أبوأحمد عمر بن شمر بن حمدويه الهروي اللغوي، وكان إماماً في الأشعار، وروى عن ابن الأعرابي والرياشي وغيرهما.
وفيها توفي محمد بن كرام بن عراف بن خزانة بن البراء، صاحب المقالة المشهورة في التشبيه، وكان موته بالشام، وهومن سجستان.
وفيها توفي الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قاضي مكة، وكان سقط من سطح، فمكث يومين ومات وكان عمره أربعاً وثمانين سنة؛ وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، صاحب المسند، توفي في ذي الحجة وعمره خمس وسبعون سنة، وأبوعمران عمروبن بحر الجاحظ، وهومن متكلمي المعتزلة، وعلي بن المثنى بن يحيى بن عيسى الموصلي والد أبي يعلي، صاحب المسند.
وفيها توفي محمد سحنون الفقيه المالكي القيرواني بها.